الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

إلغاء البطاقة التموينية قرار شجاع في غير أوانه


       أثار قرار إلغاء البطاقة التموينية في السادس من تشرين الثاني 2012 من قبل مجلس الوزراء العراقي واستبدالها بمبلغ نقدي مقداره 15 ألف دينار ابتداءاً من شهر آذار القادم ردود أفعال سياسية وشعبية متباينة كان في معظمها يصب في الضد من قرار الاستبدال مما اجبر الحكومة على إعادة النظر في هذا القرار المفاجئ والبقاء على العمل بالبطاقة إلى شعار آخر. وقبل الخوض في الآثار الايجابية والسلبية لهذا القرار لابد لنا من المرور سريعا على خلفيات هذا القرار سياسيا وان كنت لا ارغب الخوض كثيرا في الجانب السياسي للقرار.
        فقبيل قرار الإلغاء كانت بعض التسريبات الإعلامية من الكتل السياسية تفيد بوجود حراك غير معلن داخل أروقة مجلس الوزراء مفاده عزم الحكومة على تحسين مفردات البطاقة التموينية من حيث الكم والنوع عبر الاعتماد على شركات عالمية متخصصة بدلا من الآلية المتبعة في توزيع السلع ويكون التوريد من مناشئ عالمية معروفة، إلا ان الأمور تغيرت بشكل سريع ليضع القرار في جدول أعمال المجلس ومن ثم يقر من خلال تصويت وزراء الكتل السياسية المشاركة في الحكومة ومع ذلك فان السخط الشعبي وجه بشكل مباشر وغير مباشر على السيد رئيس المجلس كونه من أقر القرار ووضعه على جدول الأعمال قبل ان يأخذ طريقه إلى التصويت. فبمجرد إعلان القرار تنصلت معظم الكتل السياسية منه وبدأ التراشق الإعلامي بالظهور بعضها رأى القرار ماهو إلا لتضليل الرأي العام وإبعاد نظره عن بعض القضايا الساخنة في البلد كقضية البنك المركزي وقضية صفقة السلاح الروسي وغيرها، وترى كتل أخرى ان كتلة القانون تريد ان تلغي البطاقة كقرار على الورق لا يلبث ان يلغى قبيل انتخابات مجالس المحافظات لكسب ود الناخب العراقي كون هذه الانتخابات تهيئ لإعادة رسم الخارطة السياسية في انتخابات مجلس النواب القادم. بينما في الجانب الآخر يرى بعض السياسيين ان رئاسة الوزراء وقعت في الفخ الذي نصبها لها الشركاء السياسيين عندما صوتوا على القرار ثم انقلبوا بسرعة البرق ليعلنوا رفضهم القاطع.
        وبالعودة إلى الجانب الاقتصادي فأن البطاقة التموينية كما هو معروف للجميع بدأ العمل بها لتساهم في إنقاذ الناس من مجاعة حتمية عندما احتل صدام الكويت في عام 1990 ففرضت على العراق العقوبات الاقتصادية المختلفة والتي على أثرها توقف تصدير النفط العراقي باستثناء كميات محدودة عن طريق الأردن، واستمر العمل بها حتى عام 1996 عندما وقع العراق مذكرة التفاهم مع الأمم المتحدة النفط مقابل الغذاء Food to Oil فسمح بتصدير كميات محددة من النفط لغرض تزويد البلد بالاحتياجات الأساسية من غذاء ودواء وسلع ضرورية فحصل تحسن ملموس في مفردات البطاقة من ناحية النوع والكم، واستمر العمل بها بعد التغيير الذي حصل في البلد عام 2003 الا انها لم تتصف بالثبات والاستمرارية كما كان سابقا فقلصت مفرداتها من تسعة مواد إلى خمسة وحتى هذه المواد الخمسة حصل تلكؤ في إيصالها إلى المواطنين بسبب عمليات الفساد التي رافقت توزيع مفرداتها ونتيجة الفساد الإداري والمالي الذي تعاني منه وزارة التجارة أسوة بالعديد من الوزارات الأخرى وفقا لتقارير المنظمات والمؤسسات الدولية وكذلك تقارير هيئة النزاهة.
       ان قرار الإلغاء لو ناقشناه بتجرد وموضوعية نراه يحمل العديد من الأمور الايجابية التي تصب في خدمة المواطن منها إعطاء الحرية المطلقة للفرد في تحديد خياراته الاستهلاكية بدلا من ان تكون محددة كما ونوعا من قبل الدولة، فمن المعروف من الناحية الاقتصادية سلم تفضيلات الفرد يختلف من شخص لآخر وبالتالي تحديد هذه الخيارات من الغير مهما تكن مثلى تبقى لا تتطابق بصورة تامة مع مايريده الفرد من السلع المختلفة. ومن الأمور الايجابية الأخرى في قرار البدل النقدي هو التخلص من الحلقات الزائدة التي تشكل كلفة مهمة تتحملها الدولة تبدأ من شراء السلع وتوريدها الى البلد ومن ثم إيصالها الى المواطنين عن طريق الوكلاء المنتشرين في عموم محافظات البلد وتحويل هذه الكلف إلى المواطنين بدلا من هدرها هنا وهناك على هذه الحلقات المختلفة. وكذلك من الأمور الأخرى في هذا المجال هو القضاء على عمليات الفساد التي تحدث من خلال الحلقات السابقة فقد تستورد سلع من مناشيء غير معروفة او حتى من السوق المحلية عبر قيام تجار الشورجة بتجميع السلع من السوق المحلية والتي قد يكون قسم منها على وشك انتهاء صلاحيته او قد يكون مخزن بطريقة غير صحيحة ويبيعونها على تجار الجملة في جميلة الذين قد يتعاقدون مع وزارة التجارة على تجهيزها ببعض مفردات البطاقة التموينية فتجد طريقها الى مخازن وزارة التجارة ومن ثم الى المواطنين، وعند إضافة مايقوم به بعض الوكلاء من التلاعب بنوعيات السلع المستلمة من خلال استبدالها بنوعيات اقل جودة قبل توزيعها على المواطنين سوف تزداد حلقات الفساد سوءاً ويتحمل المواطن دون غيره النتائج الخطيرة المترتبة على ذلك. ولا ننسى أيضا المبالغ الكبيرة التي تنفق سنويا من قبل الدولة لطباعة هذه البطاقات وتوزيعها على المواطنين وكذلك مايدفعه المواطنين من أموال لغرض تصوير البطاقة وتقديمها في كل معاملة رسمية كونها أصبحت احد الوثائق الأساسية على الرغم من إلغائها بصورة رسمية من قبل الدولة غير ان معظم الوزارات لم تنفذ هذا القرار لتستمر في طلب تقديم البطاقة كأحد الوثائق التعريفية للشخص. وقبل مغادرة هذا القسم لابد لنا من إضافة مسألة مهمة تتعلق بكرامة الإنسان فالتعويض النقدي يتيح للفرد اختيار المحل المناسب للتبضع بدلا من الوقوف من قبل كبار السن في طوابير أمام الوكلاء ومعهم العربات الصغيرة التي يدفعونها لتنقل لهم هذه المواد الغذائية.
       من الجانب الآخر هنالك العديد من الأمور السلبية التي قد تترتب على هذا القرار فيما لو تم تنفيذه منها ان السوق المحلية قد لاتصمد فيها مستويات أسعار المواد الغذائية عند مستوياتها الحالية نتيجة طاقتها المحدودة نسبيا وجشع بعض التجار ومحاولة استغلال الزيادة المتوقعة في الطلب، حتى وان تدخلت الدولة بطريقة أو بأخرى للحيلولة دون ارتفاعها فان الأسعار ستزداد ولو بنسبة بسيطة، ووفقا للنظرية الاقتصادية فأن الأسعار عندما ترتفع لمستوى معين نتيجة عارض معين يتعلق بالعرض او الطلب فأن زوال المسبب لايرجع الأسعار إلى مستواها التوازني السابق وإنما تستقر عند مستوى توازني أعلى. وكذلك فان تحديد سد احتياجات الفرد بـ 15 ألف دينار شهريا على ضوء مستويات الأسعار الحالية فأن ارتفاع الأسعار مستقبلا نتيجة ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار الغذاء العالمية نتيجة الظروف المناخية غير المواتية فأن المبلغ المذكور قد لايكفي وبالتالي تعرض الشريحة منخفضة الدخل إلى خطر المجاعة لاسيما ونحن لدينا 23 في المائة من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر وفقا لبيانات عام 2007 وبالتالي فأن ارتفاع أسعار الغذاء العالمي سينعكس بشكل مباشر على زيادة نسب من يحسبون على الفقراء خصوصا وان أسعار الرز العالمي على سبيل المثال ارتفعت بحدود 30 في المائة خلال شهرين فقط.
       ان البطاقة التموينية بعد ان اعتاد عليها المواطن لمدة تجاوزت عقدين من الزمن ليس من السهولة بمكان ان تلغى هكذا بدون دراسات معمقة وآلية مناسبة تضمن تقبلها بصورة طبيعية وسلسة لايترتب عليها الأمور التي تثير حفيظة المواطن في بلد ليس بحاجة الى المزيد من المشاكل. لذا فان الأمر يحتاج إلى حملة إعلامية واسعة تبين مزايا البدل النقدي ثم تعوض بالبدل المناسب بصورة تدريجية وبصورة اختيارية كي لا تتأثر أسعار المواد الغذائية بصورة كبيرة ومن ثم بمرور الزمن سيفضل البد النقدي على حساب التجهيز العيني للمواد الغذائية عندما يرون الايجابيات المترتبة على هذا البدل لاسيما إذا ما تعهدت الدولة بمراعاة زيادة البدل المذكور فيما إذا حصل ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية.                  

ليست هناك تعليقات: